كنت أفكر بأن ذكري فلسطين دائماً ما ترتبط معي _ وربما مع الكثيرين غيري _ بمشاهد الدماء و الجرحى ، تحمل لأنفي رائحة الحرب، و إلي سمعي أصوات الرصاص ..ولكن أتلك هى فلسطين ؟ أتحمل فلسطين رائحة واحدة ؟ أتعطى إحساساً واحداً ؟ أتصور منظراً واحداً ! أتنطق لفظاً واحداً؟!..كنت أظن ذلك قبل أن اكتشف بنفسي روح فلسطين ، الروح التي هي أبعد ما
يكون أن يتحسس عدو بأسلحته ملامحها ، أو يستنشق بمدافعه عبيرها، تلك
الروح المتجلية في الفن الفلسطيني ، أصبحتُ مؤخراً أهفو في شوقٍ إلي استكشاف تراث الفن الشعبي الفلسطيني ، تنساب فلسطين إلي مسامعي علي أنغام العتابا و الميجانا و استنشقها من حنجرة سناء موسي وتفاريد التراث الفلسطيني من فرقة الفنون الشعبية .
"عائد إلي حيفا" ، غسان كنفاني ، آخر ما انتثر علي روحي من روح فلسطين !
يعرف غسان كيف يجعل من يقرأ له "هو" أو بطله ، يعرف أين يبدأ و أين يقف و أين يأتي بالجملة والكلمة و الحرف! ..
لعب بيّ غسان كثيراً ، أخذ يدفعني هنا و هناك، لتحركني الرياح ويجرفنى الموج فأجدنى على شاطئ الوطن، أجدنى فى حيفا اتجول الشوارع و أعرف الاتجاهات و أحفظ أرقام البيوت ،اندفع مع موجات البشر فى يوم الحرب ، و أجرى هائمة على وجهى ، اختبئ بالحارات ، و أصعد ناحية البحر صوب الميناء ، و جسدى بارداً كالثلج و جبينى يتصبب عرقاً ، وبعد عشرين عاماً أعود لانطلق بشوارعها ، اندفع في طرقات الوطن ، أعرفها جيداً وأحفظ دهاليزها ، التفاصيل أسكنها..
أسرنى " غسان كنفانى " فى روايته ، و هي ليست أول عمل يجمعني بكاتب فلسطيني عن القضية الفلسطينية ، و لم تكن الحبكة التي تستعصي علي خيال كاتب فأقف متعجبةً من خيال المؤلف اللامحدود، ولكن أدهشني غسان حقاً و هو يتسائل ما الوطن ؟ ، و يقدم الوطن في بساطة أنه المستقبل ،وبسلاسة مدهشة تتبادر رائحته لتعادل رائحة الحرب الذى حملتها كلماته لأنفى وتتغلب عليها ، رائحة المستقبل ، رائحة الوطن ،و ذلك فيما جاء على لسان البطل " سعيد " :
"كنت أتسأل فقط ، أفتش عن فلسطين الحقيقية .فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة ، أكثر من ريشة طاووس ، أكثر من ولد،أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم . وكنت أقول لنفسي : ماهي فلسطين بالنسبة لخالد ؟ إنه لا يعرف المزهرية ، ولا الصورة ، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون ، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها ، وبالنسبة لنا ، أنت وأنا ، مجرد تفتيش عن شيء تحت غبارالذاكرة ، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار.. غبارا جديدا أيضا ! لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، فالوطن هو المستقبل ، وهكذا كان الافتراق ، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح . عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل ، ولذلك هم يصححون أخطأنا ، وأخطاء العالم كله "..
على أتم اليقين أن ما تسرب إلي أنفي بقلم غسان كان عطر أرض فلسطين ،غسان المناضل و الصحفي و الروائي و الرسام ، غسان العاشق المُضنَي الذي عذبني كثيراً وجده و عذابه في حبه و مرضه ، ولا أعرف كيف يمكن لإنسان أن يحتمل كل هذا الألم ؟ السقم في الجسد و الوطن و الحب ، و يبقي قوياً، ويعلن أن الوطن هو المستقبل ، ابتسم فغسان اغتالته أيادٍ مرتعشة في ربيع عمره ولم يُغتال حلمه، خلد بكل تفاصيله
خلدت خيالاته المشروعة علي أرضه ، خلد نضاله
ابتسم فالوطن آتٍ ، آتٍ ليرتمي بين ذراعيّ حلمك ، و إن كان بعيداً ، بعيداً جداً
ابتسم فالوطن هو المستقبل
والمستقبل هو أنت ..
ابتسم فالوطن هو المستقبل
والمستقبل هو أنت ..
