ربما لو كنت من سكان جاردن سيتي ، لأشعلت الآن الضوء الخافت للـ ڨراندة واستندت إلى عمودٍ نحته فنان إيطالى - سكن قاهرة نجيب محفوظ وتسكع في أروقتها وممراتها الضيقة بصحبة فتاة سمراء هجرت العالم والتقاليد حُباً للون جسدها المُشرب بحمرة فرشاته- ، ولرسمت بيدٍ لم تنهكها سوى القُبلات كلمات مقتضبة بالفرنسية أعبر بها عن حماسي لعامي العشرين وأنا استمع للجاز الذي يبدو منقرضا إلا في جاردن سيتي ، ربما ألهمتني رنات الموسيقي وهي تحلق فوقي وتمتزج بنسمات تلك الليلة الصيفية الهادئة والتي تعبث بخصلات شعري وأوراقي فكتبت قصيدة مكونة من كلمتين ، ولكن المشهد يبدو أكثر عشوائية لأن علب الصودا الفارغة تحاوطني وكذلك الكتب التى أرغب فى التخلص منها، ولا نسمات باردة مُشبعة برائحة ليل الصيف تداعبني ، أحفظ القصيدة بقلبي ولكن الموسيقى صارت تتقطع على حافة أذنيّ والسجائر أجمل ما يمكن أن يكمل المشهد العبثي ولكنني مازالت ضعيفة حتى اللحظات الأخيرة من سنوات الحرية واللامسئولية وسأكتفي بتدخين جثتي .
لا أعرف ، لا أعرف إذا كان الأمر يستحق كل ذلك الوقت للوصول إلى معنى ما ، خطة ما أو حتى ساعة رائقة من مواجهة حقيقة ما يدور بعقلي ، ساعة أتوقف فيها عن إستخدام الإستعارات التي لم تعد ذكية بالمرة بعدما استهلكها من لا يؤمنون بالشِعر، لا أعرف ما أحتاجه ولا أعرف إذا كان مهماً أن أفكر في ذلك مقابل أن أفكر فيما يحتاجه العالم مني ، لست مناضلة ولكني لمست الثورة من بعيد بأصابع متوجسة ومازالت أناملي تحرقني ، لست خاضعة لأنني مازلت أتنفس هواءً لم يحاصره الإمبرياليون ولكنه يزداد تشبعاً في أنفي برائحة الدم الأحمر يوماً بعد يوم .
الطريق الذي لا يشبه غيره تائه ، والخروج عن خطيّ المسار المرسوميّن بعناية من رجل دين أو سياسي مخادع مغامرةٌ تشبه الموت أحياناً ، خاصةً إن كان جذب الإنتباه ليس كل ما يشغل مساحتك من الفراغ ، الحلم المُحدد بشروط ليس حلماً ، والحب ليس كما يروج له حديثو العهد بإباحته ، لا يجب أن أسمع لهم حين يرددون بكل تفاخر وثقة في إتساع المدارك " ليس عيباً ولكن العيب في الطريقة التي يُمارس بها " ، الحُب المُحدد بشروط ليس حباً ، والحب الذي قصصت شعري وردمت فوقه ببقاياه كان أشبه باصطناع النوم ثم ترديد حلم مُزيف على كل من جلس بجانبي على مقعد الحديقة العامة ، كان حُباً ضعيفاً ، فضضت بكارته بعينيّ .
خوفي من سرعة العمر كشف عن تقديرٍ أكنّه للحياة ، كنت صغيرة يوماً واعتقدت أن أفكار الانتحار لا تراود إلا من يسكنون سويسرا ، أخبرتني امرأة ذات عينين واسعتين بذلك ، الأشياء مازالت مشوشة ولكن لا داعي للإستسلام والتوقف عن محاولة فك تلك العُقد الأبدية لخيوطٍ كونية لم أتدخل بها منذ البداية ولكنها مسئوليتي الآن ، لن تمر عشرون آخرى دون أن أحدث بعض الصخب الصادق بداخل مجرى حياتي وحياة مظلومٍ آخر ، لن تمر عشرون آخري وأنا مكتوفة الأيدي أمام عينين تمتص كل ما أحمله من سوادٍ ، لن تمر عشرون آخرى دون صيفٍ أخضرٍ على بحرٍ غير هادئ في أمريكا اللاتينية بصحبة حبيبٍ طويل الشعر ويساري المزاج لا يمل من القبلات .
