كانت النجوم تسقط مع المطر.
حدث ذات شتاء أن شهدت أطول ليلة في
العام، أتساءل كم نهاراً دَاهَمَت لتحصد كل هذا الوقت، وكان ظلام حارتنا صارماً في فرض ملامحه، حتى أضواء البلكونات
الليلية امتنعت بدأب عن نزف ساعاتها فوق المسافات النِديّة، لم يشق المدى بصعوبة
سوى ولعة عم حسن جميل، بسببه مازال الدخان ينخر صدري كلما بكيت.
في مملكتنا درت الليالي ألاحق وقار السماء من فوق
دراجتي الضريرة، يدحرجني الوحل وأصادقه، أملأ قبقابي بحبات الرمل الباردة وأغطّس
أنفي وذقني في برك الطين، وأحتفل وحيداً بانتصاري على أمي ومسوخها التعيسة وحقول
الجن التي مازلت أبحث عنها، كنت أميراً عربياً تحملني سجادتي السحرية لما وراء حيادية
الأصواف، أو دباً منزلي الصنع تتلاعب الأصابع الباردة بخفة أليافه المتهالكة، ربما
لُفظت وربما ذهبت على قدميّ في تلك الليلة نحو صالون الحلاقة المستجد، كانت مساحته صغيرة لا تتسع
إلا لزبونين، يافطته زرقاء وواجهته زجاجية تحمل رسماً زيتياً مُفرغاً لرجلٍ بلا
ملامح له شعر كثيف، ترويت في مسح الزجاج المعبأ بالبخار برسم كائنات صغيرة تسبح
فوق ما تركته عمداً ليكون البحر، ومن بين الفراغات الضيقة للشيش الأخضر رأيت رجلاً
يُقبل رجلاً آخر.
لم تكن قبلة إِحْمَائية
تتعجل لابتذال العتمة ، كانت
قبلة شغف، تتمهل وتتصاعد شبقاً لمرتفع ما يقع على خريطة أجهل بها، فعلٌ عصي
الترجمة على طفلٍ مازال يرتبك في تقديره لحركة البشر حول بعضهم البعض، مرت دقائق
وربما ساعات وأنا والرصيف وحدة غير منسجمة، تحزم جسدي الشحنات المتسارعة من وإلى
عمودي الفقري، تيبست أطرافي وتشقق صدري كأن السماء قد استندت بكافة ألوانها إلى عظامي
الرخوة، عصرت بطني بيدي ثم رفعت ذراعي في غفلة عن نفسي، ففررت غارقاً في الليل
أبكي وأنزف من بين فخذيّ، لا أعرف ما يجب أن أفعله بما يصعقني ويريق سوائلي، همت
على وجهي، جريت في الأرجاء، تعثرت في دكان عم حسن، ناولني كوز بطاطا وطلب مني العودة
إلى البيت، التهمتها بلا وعي ، لم أتبين لها رائحة ولا طعماً، اتكأت على عتبة بيت عمتي
نبيلة وأنا ألهث في رعب الليل، ظننت أني عرجت لأرضٍ عالية سحبت مني دم الغريب، أو
مت وبعثت في زمن آخر، أو أنني امتطيت البراق في هيئة دراجتي المسكينة وتخيلت كل القصص التي سأخبرها لسعد، صديقي
الوحيد آنذاك.
لم يستر تمادي الظلمة رجفتي، تسحبت إلى الحوش الواصل
لبيتنا، والليل يتدحرج فوق كتفيّ وينهمر من بين ساقيّ والدخان الأسود يتصاعد من
رأسي ليحل عقدة النهار، بدأ صياح الديوك، وهبا النور في أنفي، أغمضت عيني وضغطت
جفوني كأنني أحاصر الفجر ليملأني بما تصبب من مسامي المشرعة على مصراعيها، ورحت
أتسرب بهدوء خلف باب الجحيم، غمرتني سخونة الفراش ورائحة الجو المعبأ بالنوم،
تدثرت بجانب أختي الكبرى زهرة، تأملتني لثواني ثم لفتني بذراعها الأيسر وعادت
للنوم، كانت تكبرني بعشرة أعوام، لم أفهمها كثيراً، ولكنها كانت ذات مزاج متزن،
تقوم بأعمال المنزل كأنها راقصة معاصرة، تستخدم أصابعها بحساسية وترمي الفضاء
بنظرات مغتربة، تتحسس ذراعيها في الظلام ولا تتحدث كثيرًا، تقف أمام مرآة الدولاب
لساعات لتنظف سُرتها بسائل اخترعته بنفسها، لا يلوث الفضاء من حولها إلا سباب
ولعنات أمي المستمرة، لم يمر يوماً دون أن تؤدي هذا الطقس الرطب على مسرحها الآيل
للسقوط.
مر يومان وأنا لا أتسلل ليلاً، كنت انتظر عودة سعد من بلدة أبيه في أقاصي الصعيد حيث يمشي عدة أمتار للتبول في زريبة أقاربهم، جعلت قصصه تلك وضعي حيث أعيش أقل إيلاماً، وكانت اللهفة تشق صدري لأروي له ما رأيت، لكن رد فعله جاء باردًا، أخبرني أنني مخطئ وأن بالطبع ما رأيته هو رجل يقبل امرأة لأن الرجال يقبلون النساء، أكدت له لكنه لم يسمعني وقال أنه يعرف تلك الأشياء جيدًا وخبرته تفوقني فيما يحدث بين رجل وامرأة، أعتقد اليوم أنه كان ينكر ما يعرف أنه ربما حدث لاثبات تفوق جنسي مفهوم لمراهق بدأ لتوه السباحة في غابات الجسد، لم أفكر في ما يقصده قدر ما فكرت في غضبي، سعد كان أكبر أصدقائي في ذلك الوقت، خفف من يُتمي كثيراً واحترمته كاحترامي لزهرة، وكنت أتبعه كظله، وتجاهله كان بمثابة تجاهل الناس جميعاً.
مر يومان وأنا لا أتسلل ليلاً، كنت انتظر عودة سعد من بلدة أبيه في أقاصي الصعيد حيث يمشي عدة أمتار للتبول في زريبة أقاربهم، جعلت قصصه تلك وضعي حيث أعيش أقل إيلاماً، وكانت اللهفة تشق صدري لأروي له ما رأيت، لكن رد فعله جاء باردًا، أخبرني أنني مخطئ وأن بالطبع ما رأيته هو رجل يقبل امرأة لأن الرجال يقبلون النساء، أكدت له لكنه لم يسمعني وقال أنه يعرف تلك الأشياء جيدًا وخبرته تفوقني فيما يحدث بين رجل وامرأة، أعتقد اليوم أنه كان ينكر ما يعرف أنه ربما حدث لاثبات تفوق جنسي مفهوم لمراهق بدأ لتوه السباحة في غابات الجسد، لم أفكر في ما يقصده قدر ما فكرت في غضبي، سعد كان أكبر أصدقائي في ذلك الوقت، خفف من يُتمي كثيراً واحترمته كاحترامي لزهرة، وكنت أتبعه كظله، وتجاهله كان بمثابة تجاهل الناس جميعاً.
وترددت كثيراً قبل أن أحكي لأمي عما رأيته، كنت أتذكر بوضوح الصفعة التي هوت على وجهي عندما حدقت في قبلة تلفزيونية متعجلة، وكانت أمي متزوجة من رجل يأكل اللحم قبل أن يستوي، تجره
جراً كل جمعة لغسل جسده الضخم، لم يحبني ولم يستمع إلى ما أقوله بل كان دائم
التعقيب على تساؤلاتي ب: " بس يالا بلاش هطل " أو كلمات أكثر بذاءة أو
بالضرب الذي لم يكن مؤذيًا لهذا الحد لأنني اتخذته كعلامة للحضور الأبوي في حياتي
وكنت في أشد الحاجة لوجوده حتى لا أبني كل ما يريد أن ينطق به تكويني حول سعد أو
بالأحرى بداخل سعد.
كنت أعرف ما
ينتظرني، لكن الكلام في أحشائي كان يؤلمني ألمًا جسدياً، فعلت ذلك على طاولة
العشاء، وكنا نتناول حساء حضرته أمي على مرقة صناعية إلى جانب المسقعة والخبز المحمص، سردت قصتي وثبتت عيني على
زهرة، تثاقل الصمت في الهواء وكذلك قلبي في صدري، فقلت: مش متأكد سعد بيقولي اكيد
بيتهيألك، اضطربت وكدت أوثب من مكاني واختبأ عندما ألقى زوج أمي بسلطانية المرق
الساخن على وجهي ورقبتي، لم أصرخ، صرخت أمي وهرعت باكية لإحضار الثلج والكمادات
وهي تسبه وتلعنه وتدعو عليه بالخراب والموت، كانت زهرة تبكي ولم تقل كلمة واحدة،
في الفراش صبت فوق رأسي ماء الورد والدموع واحتضنتني ولم تنم.
لم أخرج لأسبوع
لأن وجهي كان يبكيني، زارني سعد وحدثني عن مصير صالون الحلاقة جراء فعلتي،
وأحدث الشائعات حول من كان بالداخل، يقال أن عم هلال الحلاق قد طرد ابنه من
البيت، وفُتح أمر أصل تلك العائلة التي غزت حارتنا بلا مقدمات ولا تاريخ، وقيل أن
محله السابق في منطقته التي لا نعرفها قد خرب أيضاً من وراء ابنه الشاذ الملعون
وأن حارتنا ليست مدفن للفجور والفضائح، القليلون طالبوا بالتريث في الحكم وحسن
النية حتى تظهر الحقيقة، ولكن ذلك لم يحدث،
كسر المحل فوق رأس من فيه بلا تأخر، كان يلومني على كذبي ولكن ليس بكلمات واضحة ربما لأنه تعاطف مع قبحي الوليد.
آسف، ربما تفاعلت مع سؤالك بعاطفة مبالغ فيها، لكن تلك هي
حكاية الندبة ،كانت تحرقني لسنين، ويهيأ لي أنها تدر دماً تراه زهرة فقط، دون شكوى
مني كانت تقبلني كلما شعرت بذلك، أعرف أني لست كما أتصور وتتصورين الآن، هي فقط
مداعبات الطفولة، كنت أتصرف بحزم مع نفسي، انتقلت إلى هنا وأنا في الثامنة عشر،
ومنذ أن وطأت قدماي تلك الغرفة بدأ تحدي الجوع الصغير، ثقب في رأسي لا يرتوي، لأسباب
لا أفكر بها كثيراً تصحبني حسناء كل ليلة إلى تلك العلبة الضيقة، ربما مظهري الغريب أو
لكنتي المضحكة أو رائحة العود تمنيهن بفارس شرقي جريح، تكتمل استقامتي في الرحلة
الشاقة فوق تلال نهودهن، وأُدفن نفسي بجانب جسدي في قبورهن الضيقة.

