Friday, November 1, 2013

في الكرنك ( رسالة إلي عالمٍ آخر ) .


ما كل هذه الرهبة التي تمتلكني و أنا انتصب أمامك ؟ 
صحيح أن حجمك عظيم ومخيف ، ولكني لم أخذ يوماً بالأحجام ؛ فالأفيال كائنات وديعة ورقيقية ، أقف في هذا البهو العظيم مأخوذة الأنفاس ، مرتجفة الجسد و مقبوضة القلب علي تلك الأرض التي لا تتركها الحياة ، كيف تترك أول بقعة في الأرض آمنت بالحياة بعد الموت ؟ ولكني أري فيك انت الموت ! الناس يتجولون من حولي في دهشة و إنبهار و أنا وحدي لا استطيع أن أحول نظري عنك ، أري نظرتك الصارمة ربما المحتقرة  و أريد أن أشير للجميع ليشهدوا علي غضبك و شرك !
أعرف أني أكرهك ، وأنفر منك ومن خوفك وعجزك ، لماذا صدقك الجميع ، لماذا لم يتمردوا علي ترهيبك وشرك ؟ ، لماذا رضوا بأن يعبدوا خوفهم ؟ ، أقف الآن في معبدك ، الكرنك العظيم ، بين كهنتك الداعرين ، ولك أن تصب غضبك فوقي كما تشاء ، ولكنني أعرف أنك لا تستطيع ، لأنني لا أخافك ولا أصدق أكاذيبك السخيفة .
يا آمون الهائل ،العملاق ، أري نظرات الكره في عينيك ، وأفضي لك سراً أعرفه عن أجدادي ؟ ، هم لم يحبوك يوماً ! نعم لم يحبوك ، قدموا لك القرابين و الذبائح ، و أراقوا لك الدماء ، وقدموا نساءهم لكهنتك خاضعين ، ليس لأنك الإله العظيم الذي يحبونه ويضحون بكل عزيز من أجله ، ولكن فقط لأنهم كانوا يعرفون شرك ويتقونه ، انت إله شر ، إله دماء ، وإله عهر ، أي خصوبة ؟ وأي رياح ؟ انت لا تصلح أن تكون إلهاً أصلاً .
أنا أكرهك وأكره وجودي وسط جدران ماخورك المُقدس ، ولكنني جئت إليك اليوم لأعلن رفضي وغضبي وتمردي ، بالطبع ، أنا سليلة إخناتون ،أنا أرفضك واتمرد عليك في كل زمان ومكان ، أنا أرفض الدم والشر والخوف ، لو كنت مع جدي أمنحتب  ( إخناتون ) للازمته وصحبته في خلواته مع إله الحب والسلام _الكامن في آتون (قرص الشمس) كما قاده حدسه_ ، أمد يدي للشمس وأتطهر من دنسك يا آمون ، كنت وقفت إلي جانبه في مواجهتهم جميعاً ، ورفضت أن أقتل و أن أحارب وأريق الدماء ، جيش الدولة ؟ قوة الدولة ؟ ، الحرب التي تبدأ لا تنتهي يا آمون ، وانت تعشق الحرب  ، وكيف تقوي الدولة وما بدخلها رخو وهش ، ما بداخلها خوف وكره ؟ 
وكيف يمكن أن تسقط أو تضعف و الحب يحشوها و يتغلغل بها ، أتون لا يحب الحرب ، فكيف يُنشر الحب بالحرب ؟ ،كيف يسفك جدي الدماء ثم يصلي له :

"
جميلا تشرق في افق السماء
أنت 'آتون' الحي، خالق الحياة
تأتي من الأفق الشرقي تمنح جمالك لكل أرض
جميل الرؤيا، عظيم ومنير وأنت تعلو فوق كل أرض
تحتضن أشعتك البلاد للنهاية التي قدرتهاأنت رع
أنت بعيد وشعاعك فوق الأرض،أنت علي وجوههم
ولايعرف لك مسار
وعندما تغرب في الأفق الغربي (تصبح) الأرض في ظلام
في حالة موت،ينام (الناس) بإخفاء الأدمغة في حجرات
لاتري (فيها) الأعين الآخر
يُسرق متاعهم من تحت رؤوسهم فإذ هم لايشعرون
كل أسد يغادر عرينه، وكل الزواحف التي تلدغ
المواقد مظلمة (مطفأة)
والأرض في صمت(لأن) من خلقهم غرب في أفقه
وتصبح الأرض (نهارا) عندما تشرق في الأفق
وتضيء كقرص الشمس في النهار،تبدد الظلمة


وعندما تنشر أشعتك تبتهج مصر يستيقظ الناس
ويقفوا علي اقدامهم،وبعد إيقاظك لهم يغتسلون
ويرتدون ملابسهم ويصلون ويمدحون إشراقك
كل البلد تذهب للعمل، الماشية ترتع برضي في مراعيها
والأشجار والنباتات تزهو
والطيور تطير من أعشاشها واجنحتها ترفرف بالمديح لروحك المتجسدة
وتتقافز الحيوانات البرية علي أقدامها
جميع (الكائنات) الطائرة والهابطة تحيا بشروقك عليها
تبحر السفن صاعدة مع النهر وهابطة معه بنفس الوتيرة
لأن كل سبيل مفتوح بنورك
الاسماك في نهر النيل تتقافز أمامك وأشعتك تتوغل في أعماق البحر
منشيء الأجنة في (أرحام) النساء،ومن الماء (النطفة) يخلق البشر
مُـحي الطفل في أحشاء أمه، وتوقف بكائه
وتهدئه بالرضاعة في رحم الأنثي
معطي النفس لتبقي علي حياة جميع مخلوقاتك
وعندما يخرج من الرحم (ويبدأ) في التنفس في يوم الميلاد،تفتح فمه واسعا وتمده بما يحتاج


عظيمة هي مقاصدك ياسيد الأبدية
خلقت النيل السماوي لأهل الصحراء ولكل غزلان الجبال وكل ما يمشي علي أرجل(لكن) النيل (الحقيقي) يأتي لمصر من العالم السفلي
خلقت الفصول ليتجسد كل خلقك
الشتاء يبردهم (فيأتي) الدفء فيتذوقوا طعمك
خلقت السماء عالية لتشرق فيها وتري كل صنيعك
أنت الواحد، تشرق في هيئتك 'أتون الحي'تشرق،وتلمع،بعيدا وقريبا
تخلق من ذاتك وحدك ملايين الموجودات:المدن،القري،الحقول،الطريق والنهر
كل عين تجدك في مواجهتها، لأنك شمس النهار وتعلو فوق الأرض
وعندما تذهب (تغرب) تختفي عينك وقوة الإبصار حتي لاتري نفسك وحيدا بين مخلوقاتك، لكنك في قلبي..
"
(1)


 لا أدري حقاً يا آمون لماذا عاد أجدادي إليك ؟ بأي شئ أرهبتهم تلك المرة ، لماذا وافقوا أن يتركوا آتون بعد فناء جدي و يعودوا لعهرك وشرك ؟ 
الناس يخافون ذلك العالم الغريب ، فيلجأون للقوة حتي وإن كانت ستزيدهم خوفاً ! ، عادوا إليك لأنهم يخافون ، لأنهم أغبياء ، اطمئن يا آمون لم تنتهِ حتي اليوم ، سأذهب عنك الأن وأرفع رأسي للسقف السماوي المشرق للمعبد الذي ظهر فقط يوم غبت فرأي الناس الجمال ، رأوا الشمس و السماء ، رأوا جمال الخالق في خلقه .
وانت يا جدي العزيز أخناتون أحببت قرص الشمس و أحب آخرون الظلام ، بحثت عن الخالق ، بحثت عن إلهاً جميلاً وحلمت به ، صار الناس اليوم يعبدون إلهاً واحداً كما تمنيت ، هو إله جميل ، هو كل الحب و الخير و الجمال ، اطمئن يا جدي ، أنا أري  فيه كل الحب والكمال ، اليوم أعبد الله الحب ، الله الجمال
ولكن كما قلت الناس أغبياء ، مازال الكثيرون يعبدون الخوف ويشركونه بالله  ، يقدمون القرابين كرشوة لا للحب! ، رشوة لمن ؟ 
لم يدركوا القلب ، لم يصلوا لشئ بعد كل ما مر ، آمون مازال يجري فيهم ..



__
(1) أجزء مُختارة من مزامير إخناتون-
النشيد الكبير والذي تُرجم من مقبرة 'إي' في تل العمارنة والمدون علي الجدار الغربي
Ek Amarna VI,p. 18-19,29- 31, PIXXVII,XII