Monday, March 7, 2016

لامبالاة غير مستقرة

 كنت أجلس على الأرض في الممر وكان الراديو ما زال يصدح في أرجاء الغرفة المقابلة " حبيب أها حياتي ، معاك أها حياتي " ، بينما دار العراك بالساحة الأكبر ، الصالة ،مصطفي قمر لم يبالي بإنهيار الأسرة ولا أنا أيضاً ، منذ سنوات توقفت كلياً عن الإهتمام بما يدور خارج منطقتي الخاصة والصغيرة جداً والتي تضيق يوماً بعد الآخر وتخنق أحبالي الصوتية ، 
استيقظت قبيل الفجر متعرقة الجسد ، جلست نصف ساعة علي طرف السرير دون أن أوجه نظري لساعة الريسفير الرقمية ، سمعت صوت نحيب أمي ولسبب ما تذكرت جدتي التي شاركتني هذا السرير لسنوات وحرصت دائماً علي نومي بجانب الحائط لأني منذ صغري كنت تلك الشخصية العبيطة التي توزع سندويتشات اللانشون وتقع من فوق السرير ، كما تذكرت كم شعرت بالضيق عندما عرفت أنها تبولت فوق سريري بعد أن مرضت ، وبكيت ،
كنت أنتظر الليل لأسمع حكاياتها ،كانت لا تشبه حكايات أمي المُكررة عن الشاطر حسن وحبيبته ، كانت تحكي لي عن حبيبها الأول وحياتها العشرينية ، وألمظ وعبده الحامولي ، وتصف لي ملامح الملكة فوزية وأناقتها عندما رأتها يوم افتتحت مستشفي المبرة ، وحكايات الغارات والهجرة وجارتها الحسودة والعودة بعد الحرب ،
قبل مرضها ، لم تتعدى زيارة لها أكتر من ثلاثة أيام رغم كل توسلاتي ومحاولاتي الباكية لإستبقائها وإخفاء " الصابوه " أو البروش الفضي ، كانت جميلة، كانت ترعبها فكرة أن تثقل على أحد ، وورثت ذلك عنها ، 
عادةً ما أتذكر لحظات ومشاعر قليلة من أحلامي ، في أربع سنوات تذكرت ستة أحلام بعودتها للحياة بعد موتها وتعويضي لها بإندفاع عن لامبالاتي .

قطعت طريقي في الظلام إلي الصالة وجلست هناك بعد أن انقطعت الأصوات ، وعدت من جديد إلي لامبالتي تجاه كل ما يجري، ولكنني كنت ارتعش ، كنت خائفة ، لسبب ما فكرت في الله وارتعشت ، وشعرت بوحدتي هنا وخفت من وحدتي في حياة قادمة مُتوقَعة ، هرولت إلي الداخل وأغلقت الباب وأمسكت بالموبايل ولجأت إلي الموسيقي ، ولسبب ما سرب جيمس هورنر بأصابعه وهو يلعب for the love of a princess الطمأنينة إلي داخلي ، ونمت .



Wednesday, March 2, 2016

قبل موعد العشاء الأول


في الثالثة صباحاً تبدو كل الأشياء جميلةً جداً أو حزينة جداً ، كُنّا نجلس سوياً علي سطح مبني إيطالي عمره أكثر من مائتي عام وأنوفنا تملؤها رائحة برد القاهرة فجراً ، كان حزيناً وجميلاً ، كان يحدثني عن كابوسه المتكرر وهو يصرخ دون صوت ، كان يحدثني عن العجز ، طال حديثُنا وضحكنا كثيراً ولم أسمع لضحكته أيضاً صوتاً ، فأحببت ليلتي معه وكرهته ، 
أردت رجلاً لا يمل الحديث عن كل ما يقتله عشقاً ، أردته يندفع في الكلام ويدّعي فهمه  للفن التجريدي ويسهب في تحليله للوحة لفريدة كاهلو وجدها علي باكجرواند حاسوبي وأوافقه الرأي ونضحك ، يعشق الرقص اللاتيني ولا يجيده ، ومع ذلك يبدو جميلاً وغير مضحكاً وهو يحاول أن يراقصني ، أردته أن يخرج عن النص وأن يكمل القبلة التي من قواعد تلك الرقصة ألا تكتمل أبداً ، أردت أن أمر معه عصراً بشوارع قديمة ضيقة تدور بجوها رائحة شوي الأسماك دون أن يشعر بالضيق أو عدم الجدوى، أردته أن ينزع رابطة شعري بعنف ويحله للهواء بأصابعه برفق ثم يصرخ "اثبتي" ويلتقط لي صورة عفوية يجعلها ورقية لأنه يكره كل ما هو إلكتروني ويستخدم دبوس ضغط أحمر ليثبتها علي حائط غرفتنا ، أردته أن يحدثني عن حقوق النساء وضرورة إستقلالهن ثم يهديني فستاناً أحمراً -منقط أبيض- وروج سائل ، لأن راتبي لا يسمح لي بإستقلالية كاملة وفستان أيضاً ، أردته يعترض على شرائي لطقم صيني لأننا سنأكل معاً من طبق واحد ثم ينفق كل ما في جيبه في قطع الروبابكيا - لتزيين غرفتنا الصغيرة -والكتب من نوعي المفضل ، أردته أن يهديني الوردات التي اشترى كل واحدة منها كلما راودته فكرة الإنتحار ، أردته يسافر بلا سبب وبلا موعد وهو يعرف أن أرض الله واسعة ولا مانع من الضياع أو المبيت علي البحر لأن قروشنا القليلة لن تضمن لنا مبيت الغرباء الآخرين ، أردته لا يحدثني عن البشر أو أخبارهم أبداً أبداً ، أردت أن أسهر معه في برد المدينة الغريبة لكي يحدثني عن أول فيلم شاهده في السينما ، وسبب تلك الندبة في ذراعه الأيمن ، وشكوكه حول الله والكون ، ورغبته في مشاهدة النجوم إلى ما لا نهاية ، 
كنت أريد ، وغالباً لا أنال ما أريده ، لا أعرف إن كان الله يسمعني حقاً
 لذلك اعتذر، قبل موعد العشاء الأول .


Tuesday, March 1, 2016

المياه كلها بلون الغرق *



لا أعرف متي صعدت إلي تلك السفينة أو كيف ، أقف هنا علي سطحها العالي واتأمل المياه وأفكر في نهايتها التي هي على الأرجح مياه أيضاً ، المياه تشغل أكثر مما ينبغي لها في عالمي،آخر ما أذكره قبل صعودي الأبدي لتلك الرحلة هو إختبائي في دولاب الملابس ، لأنني بالطبع لا احتمل أقارب أمي ولن أقضي الليلة معهم ، كانت تناديني رغم معرفتها بمخبأي المعتاد ،
لم تترك أمي فرصة إلا وأخبرتني كم أنا جميلة ، لم أترك فرصة دون أن أؤكد لها ضيقي ويأسي من العالم حتى لو كنت أشعر بغير ذلك ، أحب إحساس " خضتها " وقلقها علي ، أدرك كم أنا أنانية في ذلك ،
كان قبطان المركب حبيبي ، أحببته بعد أن أنقذني من قسوة قلبي ومن المياه ، وأحبني من دون سبب ، كان دائماً يشكرني علي الخطابات التي أرسلتها له لسنوات قبل أن التحق به في رحلته ، لم أكن أعرف عن ماذا يتحدث ، فأنا لا أعرف الكتابة ولم أُرسل يوماً إلي تلك المباني التعيسة التي يدعونها بالمدارس ، ولم أعرفه قبل غرقي ، ولم أعرف أين هو ولا سفينته من العالم ، ولا أعرف أين نحن الآن ، وهل ما زالنا علي الأرض أو نبحر في مياه كوكب آخر ، لكنه كان مًُصراً أنني أخبرته عن ميعاد وصولي لذلك انتظرني ، وكان يرجح أنني قد أصبت بفقدان الذاكرة خلال رحلتي الشاقة في المياه ، صدقته ولكنني لم استطيع أن أنسى أمي أو أسلم بأنها كانت وهماً ، حدثته بلغتي وحدثني بلغته وأجبرتنا الظروف أن يفهم كلانا الآخر ، في الليل كان يضع فوقي شالاً أحمرً حريرياً ويغني بجانب فراشي حتي أنام ،حتي اختفى ذات صباح من على ظهر السفينة، وبقيت وحيدة ، بلا أغنية .

البحر ليس صديقي ولكنه رفيق طريق أجبرت عليه أو اختارته ، لا أعلم حقاً ،
أنا لا أعلم ، ولم أعلم من قبل ، لا أعلم كيف بدأ العالم وكيف سينتهي ، الحقيقة أنني لا أريد أن أعلم ،
إن كانت قدمي العارية تلمس الأرض الساخنة ، وإن كنت أستطيع أن اتناول اللاتيه واحفظ أشعاراً غير مقفاة وأوشم جسدي بحرية ، إن كنت أنال بعض القبلات المفعمة بالرغبة علي ظهري ، فأنا لا أريد أن أعلم ، أما ذلك الفراغ المالح الذي مللت رائحته فهو يجعلني أريد - وللأسف-أن أعلم ، 

 ربما عليّ أن أحب شيطاناً طويل الشعر يعرف من الأسرار أكثر ما يعرفه البحار وأكثر مما عرفته أمي، لم أعتقد في شر الشياطين يوماً واحداُ في حياتي، سيكون موتي جميلاً لا يعرف الطقوس المُبكية ولن يكون هناك من يبكي .


* عنوان كتاب لإميل سيوران.